لم تكن ليلة الخميس 23 أكتوبر 2025، ليلةً كسائر الليالي، كانت لحظةً استثنائيةً من عمر الزمن، لن تنساها ذاكرة الموسيقى العربية.
لقد اعتلى نحو ثلاثين موسيقياً من نخبة العازفين الدوليين، خشبة المسرح في “مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي”، في الكويت ضمن فعاليات الدورة الـ25 من “مهرجان الموسيقى الدولي” الذي ينظّمه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ليقدموا أمسيةً ساحرةً بعنوان “أنغام من المغرب العربي — من المحيط إلى الخليج “.
أمل القرمازي

أمسية أحيَتها الأوركسترا العالمية “مزيكا” بقيادة قائدة الأوركسترا، الدكتورة أمل القرمازي، وبمشاركة الفنانين مهدي عياشي ولمياء جمال.

هذا الحدث الموسيقي يُعتبر لحظةً تاريخيةً للقيادة النسائية العربية، فالمناسبة حملت في طيّاتها لحظة فارقة: المايسترا أمل القرمازي، التي تفرّدت بقيادة الأوركسترا العربية على أهم المسارح الأوروبية والعالمية، والتي تُعتبر من القادة العالميين القلائل المؤهلين لقيادة عرض موسيقي بهذا الحجم، استطاعت أن تؤكد مجدداً من خلال هذا الحفل الضخم في الكويت، أن الموسيقى ليست فقط لغة الشعوب، بل أيضا مرآة التغيير الثقافي والاجتماعي. بحضورها الآسر، وبعصاها التي نسجت إيقاعاً من الحنين والابتكار، قادت القرمازي العرض بروح الباحثة، وعين الفنانة، وقلب المرأة العربية التي تحمل إرثاً وتمنحه حياة جديدة.

الأمسية التي جاءت ضمن فعاليات “مهرجان الموسيقى الدولي” وتحت إشراف المجلس الوطني للثقافة والفنون، تميّزت بالتنوع والاحتراف، فقد تضمّن البرنامج أعمالاً أُعيد توزيعها خصيصا للأوركسترا، مُستحضِراً أصواتاً ورموزاً من المغرب العربي، من تونس إلى الجزائر فالمغرب، في باقة ألحانٍ تماوجت فيها الأنغام الشعبية مع النفَس السمفوني الراقي. نغمات” قال جاني بعد يومين” (سميرة سعيد) و “عز الحبايب” (صابر الرباعي) و”لولا الملامة” (وردة)، و” وحياتي عندك” (ذكرى) تمايلت مع ألحان “مزيانة” و”يا رايح” و”سيدي منصور” و”علّي جرى” و”بنت بلادي” و”عبد القادر” وغيرها، في مشهدٍ فنيٍ يجمع سحر الشرق العربي بمغربه على أرض الكويت. في هذه الأمسية الاستثنائية، ترافقت الألحان الخالدة، مع أصواتٍ ساحرةٍ، فأبدع الفنان مهدي عياشي بصوته المخملي وحضوره الدافئ، وأبهرت لمياء جمال الجمهور بأداء يجمع بين الشجن والقوة، في تناغمٍ بديعٍ مع الأوركسترا.

ومن خلف الكواليس، لم يكن الإنجاز ممكناً لولا الرؤية المؤسسية المبدعة للمؤسس والمدير العام للأوركسترا الدكتور شادي حاكمة، الذي نجح على مدى سنوات في تحويل “مزيكا” إلى علامة فارقة في المشهد الموسيقي العالمي، تمزج بين الجماليات المعاصرة والهوية العربية الأصيلة، لتشكّل أوركسترا ” مزيكا” جسر عبور ثقافي يتخطّى كل الحدود. فمنذ تأسيسها عام 2017، تحوّلت “مزيكا” صوتاً عربياً عالمياً، يطوف أهم المسارح الأوروبية والأمريكية، ويعيد تقديم الإرث الموسيقي العربي برؤية أوركسترالية حديثة. وبقيادة الدكتورة أمل القرمازي منذ عام 2019، بات اسم “ أوركسترا مزيكا” مرادفا للجودة الفنية والابتكار، حيث تعاونت الأوركسترا مع أكثر من 25 فناناً من العالم العربي، وقدّمت عروضاً ضخمة لاقت ترحيبا واسعاً من باريس إلى نيويورك ومونتريال وسواها.

ومع النجاح الباهر لحفلها في الكويت، تؤكّد “أوركسترا مزيكا” مجدداً على رسالتها الثابتة: إبراز الموسيقى العربية كفن حيّ، نابض، وقادر على ملامسة الأرواح أينما كانت. فقد كانت الأمسية أكثر من حفلٍ موسيقي؛ كانت رحلةً فنيةً نابضة جمعت بين التراث المغاربي والرؤية الأوركسترالية الحديثة، حملت الجمهور من شواطئ الأطلسي إلى ضفاف الخليج، حيث امتزج عبق الأصالة بروعة التوزيع السمفوني وتردّدت المقامات التقليدية كجسرٍ لإرثٍ وأحلامٍ مشتركة.
وفي ختام الأمسية، وقف الجمهور بتحية وتصفيق امتدّ لدقائق طويلة. تصفيق لم يكن فقط لأداء متقن، بل لرحلة فنية حملت بين نغماتها رسالة إنسانية: أن الموسيقى قادرة على أن تكون جسراً وحواراً، واحتفالاً بالهوية.

بحفلها هذا، كتبت أوركسترا “مزيكا” فصلاً جديداً في روزنامة مشوارها الموسيقي الدولي، وأكدت أن النغمة العربية، حين تُعزف بروح عالمية، قادرة أن تُبهر، وتوحِّد، وتلهِم.



















