المحتويات
الهياكل الإنشائية تشهد نهاية عصر الحديد – في ظل التقلبات العالمية لأسعار الحديد، والضغوط المتزايدة نحو تقليل البصمة الكربونية لقطاع البناء، تبرز الحاجة الملحّة إلى مواد بديلة للحديد في الهياكل الإنشائية.
هذه البدائل لا تسعى فقط لتقليل التكاليف أو الانبعاثات، بل لخلق توازن بين الكفاءة الاقتصادية، والأمان الإنشائي، والاستدامة البيئية.
ومع تسارع وتيرة الابتكار، بدأت فعليًا عدة دول – منها المملكة العربية السعودية – في إدخال مواد إنشائية غير تقليدية مثل الخشب المُهندس، والألياف الصناعية، والخرسانة المتطورة، وحتى الخيزران المعالج، إلى المشاريع الحديثة.
الخشب المُهندس في الهياكل الإنشائية: خفيف الوزن وقوي التحمل
في دول شمال أوروبا، وخاصة السويد وفنلندا، أثبت الخشب المُهندس مثل Cross Laminated Timber (CLT) وGlulam قدرته على منافسة الحديد والخرسانة في بعض التطبيقات.
يتميز بخفة وزنه وقدرته العالية على تحمل الأحمال، وقد استُخدم في مشاريع ضخمة مثل “وود سيتي” في ستوكهولم، مع تقليل انبعاثات الكربون بنسبة تصل إلى 40%.
ورغم تحديات تتعلق بالحريق والرطوبة، إلا أن التشريعات الإنشائية في بعض الدول سمحت باستخدام هذه المواد في مبانٍ متعددة الطوابق، بعد تطبيق أنظمة الحماية المطلوبة.
الألياف الصناعية في الهياكل الإنشائية: مقاومة التآكل وداعمة للبنية التحتية
تشهد تقنيات قضبان البوليمر المسلحة بالألياف (FRP) انتشارًا متزايدًا، خاصة في مشاريع البنية التحتية. وتشمل هذه المواد ألياف الزجاج (GFRP)، وألياف البازلت (BFRP)، وألياف الكربون (CFRP).
ما يميزها هو خفة الوزن العالية، والمقاومة الكبيرة للشد، وعدم تعرضها للتآكل، ما يجعلها خيارًا مثاليًا للمناطق الساحلية أو ذات الرطوبة المرتفعة.
وقد أثبتت التجارب في السعودية ومصر أن هذه المواد تساعد في إطالة عمر الهياكل الخرسانية، وتقلل تكاليف الصيانة بنسبة كبيرة. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات تتعلق بضعف “المطيلية” أثناء الزلازل، ما يدفع البعض إلى دمجها مع الحديد في أنظمة هجينة أكثر أمانًا.
الخرسانة الحديثة: بدون حديد وبدون كربون
تقود الخرسانة فائقة الأداء (UHPC) ثورة جديدة في تقنيات البناء، إذ تُدمج بألياف صناعية تتيح الاستغناء عن قضبان الحديد بالكامل.
وتمتاز هذه الخرسانة بمقاومة تتجاوز 150 ميغاباسكال، أي أكثر بخمس مرات من الخرسانة التقليدية.
كما برزت مادة “فيرروك” (Ferrock) كحل صديق للبيئة، تُصنّع من غبار الفولاذ وتقوم بامتصاص ثاني أكسيد الكربون خلال التصلب.
وهي توفر قوة تفوق الأسمنت التقليدي بأكثر من خمسة أضعاف، لكنها لا تزال في مراحل التجريب بسبب محدودية توفر المادة الخام.
الخيزران: عودة طبيعية بتقنيات حديثة
رغم أنه يُستخدم تقليديًا في بعض الدول الآسيوية، إلا أن الخيزران المعالج أصبح محل اهتمام حديث في عدد من المشاريع النموذجية.
يتمتع بخصائص ميكانيكية ممتازة، منها المرونة وخفة الوزن، لكنه لا يزال يواجه تحديات تتعلق بالحساسية تجاه الرطوبة والفطريات، مما يقلل من فرص استخدامه في المناطق الرطبة كالسواحل الخليجية.

التحديات التنظيمية والاقتصادية
رغم نجاح هذه البدائل في مشاريع دولية، إلا أن ضعف الكودات الإنشائية في بعض الدول العربية ما زال يمثل عائقًا أمام تبنيها الواسع.
تسعى السعودية ومصر حاليًا إلى تطوير معايير تنظيمية جديدة تسمح باستخدام هذه المواد بشكل آمن، خاصة في مشاريع البنية التحتية.
ومن التحديات الأخرى ارتفاع التكلفة الابتدائية لهذه المواد مقارنة بالحديد، حيث تُقدَّر الزيادة بنسبة 10% إلى 25%. لكن في المقابل، وفورات دورة الحياة من حيث الصيانة واستهلاك الطاقة تعوض هذه الزيادة على المدى الطويل.

نحو مستقبل إنشائي جديد
مع تزايد التوجه العالمي نحو البناء المستدام، وتقدّم الأبحاث في مواد البناء البديلة، تبدو ملامح “عصر ما بعد الحديد” أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
التحوّل قادم، لكنه يتطلب دعمًا من التشريعات، وزيادة في الوعي الفني لدى المطورين والمستثمرين، وتطوير معايير أداء دقيقة.
السؤال لم يعد: هل هذه البدائل آمنة؟ بل: متى تصبح الخيار الأول في مشاريعنا؟