المحتويات
في ركنٍ ما من هذا العالم، يولد طفل صغير يبدو هادئًا أكثر من اللازم، لا يبكي كثيرًا، لا يتحرك كما يجب، وتبدو عضلاته مرتخية، كأنه قطعة قماش.
قد تمر تلك اللحظات على الأهل بقلق، لكن الحقيقة غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا ووجعًا مما يتخيلون إنه أحد وجوه متلازمة “برادر-ويلي”، المرض الجيني الغامض الذي لا يُعرف له علاج حتى اليوم، والذي يحوّل حياة الأطفال وأسرهم إلى صراع طويل مع الجوع الذي لا ينطفئ.
جوع لا يشبع… منذ الطفولة
تُعد متلازمة “برادر-ويلي” من الاضطرابات الوراثية النادرة، إذ تصيب ما بين شخص واحد من كل 10 آلاف إلى 30 ألف شخص حول العالم، وتظهر في الغالب بشكلٍ عشوائي خلال مراحل تطور الجنين، دون أن تكون موروثة من أحد الأبوين في معظم الحالات.
ما يميز هذا المرض النادر هو فقدان السيطرة على الشهية ابتداءً من عمر سنتين تقريبًا؛ إذ يبدأ الطفل فجأة في طلب الطعام بشراهة غير معتادة.
لا يشعر بالشبع مهما أكل، ويبدأ وزنه في الازدياد بشكل مخيف. هذه الحالة تُعرف طبيًا باسم “الشره المرضي” أو Hyperphagia، وهي من أبرز سمات المرض، وتُعد من أخطر مضاعفاته بسبب ارتباطها بمشاكل القلب والسكر والضغط.
تشوهات جينية في الكروموسوم 15
في جوهر المرض، يكمن خلل في الجينات الموجودة على الجزء q11.2-q13 من الكروموسوم 15، وهو الجزء الذي يتحكم في عدة وظائف عصبية وهرمونية مهمة، أبرزها تلك المتعلقة بالشهية والنمو. وفي الحالات الشائعة، يتم فقدان النسخة الجينية القادمة من الأب، بينما تظل نسخة الأم غير فعالة بطبيعتها بسبب “الطبع الجيني” (Genetic Imprinting)، ما يترك الطفل دون نسخة فاعلة من تلك الجينات الحيوية.
أما في حوالي 30% من الحالات، فيرث الطفل نسختين من الكروموسوم 15 من الأم فقط، دون أن يرث نسخة الأب، ما يؤدي إلى نفس النتيجة القاسية.
ملامح جسدية مميزة ومضاعفات مزمنة
لا تقتصر تأثيرات المتلازمة على الشهية فقط، بل تشمل طيفًا واسعًا من الأعراض تبدأ بانخفاض التوتر العضلي (Hypotonia) منذ الولادة، وتأخر النمو الجسدي والذهني، وقصر القامة، والعيون اللوزية الشكل، والفم المنحني، والجلد الفاتح، خاصةً عند فقدان جين “OCA2” المسؤول عن صبغة الجلد والشعر.
كما يعاني المصابون عادةً من ضعف في الأعضاء التناسلية، مشكلات في النوم، اضطرابات بصرية، وقصور في نشاط الغدة الدرقية، فضلًا عن تأخر في المهارات الحركية والكلامية.
العلاج: إدارة لا شفاء
ورغم أن المرض لا علاج جذري له حتى الآن، إلا أن التدخل المبكر والتكامل بين العلاجات الهرمونية والسلوكية والغذائية يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في حياة المريض. وقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) عام 2000 على علاج هرمون النمو، والذي يُساعد على تحسين الطول وقوة العضلات وتقليل نسبة الدهون.
وفي عام 2025، تمّت الموافقة لأول مرة على دواء مخصص لعلاج الشره المرضي لدى مرضى برادر-ويلي، للأطفال فوق عمر 4 سنوات، في محاولة للسيطرة على واحدة من أخطر سمات المتلازمة.
حياة ممكنة… لكن بشروط
مع الدعم الطبي المتواصل والتغذية الدقيقة والرعاية النفسية، يمكن لمرضى برادر-ويلي أن يعيشوا حتى سن السبعين، لكن من دون هذه العوامل، قد تؤدي المضاعفات مثل السمنة المفرطة والسكري وأمراض القلب إلى تقليص عمر المصاب بشكل كبير، وأحيانًا الوفاة في الأربعينات.
وراء كل حالة من حالات هذا المرض قصة كفاح فريدة، فالأطفال المصابون به لا يعرفون معنى الشبع، وأهاليهم يخوضون معارك يومية بين الحنان والانضباط، وبين توفير حياة طبيعية قدر الإمكان والوقاية من الانهيار الصحي.