بالنسبة إلى الأجيال الشابة التي نشأت في بيئة يسودها التكامل التقني السلس، لم تَعُد فكرة تحسين العقل البشري حكرًا على الخيال العلمي. ويبدو هذا التحول جليًا على وسائل التواصل الاجتماعي — حيث لم تَعُد التطبيقات مقتصرة فقط على الأغراض العلاجية، بل امتدت لتشمل طموحات متزايدة، مثل تعزيز الذاكرة، وتعلُّم اللغات الفوري، والوصول المباشر إلى الذكاء الصناعي. ولدى بعض المستخدمين، باتت غرسات الدماغ تُوصَف بالفعل بأنها “ChatGPT داخل أدمغتنا”.
تحديث العقل
هذا التغيّر الثقافي يعكس رؤية ماسك، الذي يرى أن اندماج البشر مع الذكاء الصناعي بات ضرورة للحفاظ على أهميتهم في عالم رقمي سريع التطور. ففي عام 2019، قال: “إذا لم تستطع التغلب عليهم، فانضم إليهم”. وتمتد رؤيته إلى ما هو أبعد من علاج الدماغ، إذ يطمح إلى تطويره وتعزيز “عرض النطاق الترددي” للتفاعل مع الأنظمة الرقمية، ليصل إلى سرعة توازي سرعة التفكير.
وبحسب BCC Research، بلغت قيمة سوق واجهات الدماغ والحاسوب العالمية نحو 2.1 مليار دولار في عام 2023، ومن المتوقع أن تنمو لتصل إلى 4.5 مليار دولار بحلول عام 2029. وتعتمد هذه الواجهات على التقاط إشارات الدماغ، ثم معالجتها وترجمتها إلى أوامر تُوجّه الأجهزة الخارجية لتنفيذ المهام المطلوبة.
بين الأمل والقلق
مع اقتراب رقائق الدماغ من التحوّل من مجرد فكرة في أدب الخيال العلمي إلى واقع سريري ملموس، يحذّر الخبراء من العواقب غير المقصودة التي قد تترتب على هذا التقدّم المتسارع.
التغيّر الثقافي
في حديث مع فوربس الشرق الأوسط، صرّح خبير الأمن السيبراني، رولان أبي نجم، قائلًا: “يمكن اختراق رقائق الدماغ تمامًا كما تُخترق الهواتف الذكية أو أي جهاز إنترنت الأشياء آخر متصل بالشبكة”. وأضاف: “قد تتمكن جهات خبيثة من سرقة الذكريات، أو التلاعب بالمشاعر، أو حتى التحكم في الحركات الجسدية. وكما هو الحال مع أي جهاز أو برنامج، فإن هذه الرقائق عرضة للأخطاء والثغرات، ما قد يُشكل تهديدًا حقيقيًا على صحة المستخدم”.
وشدّد أبي نجم على “ضرورة التزام مصنّعي الرقائق بإجراءات سلامة صارمة، وإخضاع كل عملية زرع لاختبارات دقيقة وموافقة الجهات الصحية، إلى جانب سنّ الحكومات لقوانين واضحة تحمي بيانات الدماغ وتضمن استخدامها بطريقة أخلاقية. ومع ذلك، تبقى مسألة تطبيق هذه اللوائح وإنفاذها تحديًا كبيرًا، مهما بلغت درجة شموليتها”.
في السياق ذاته، حذّرت لارا لطيف، وهي أخصائية نفسية سريرية في المستشفى الأمريكي دبي، من تداعيات الاعتماد الكامل على هذه التكنولوجيا، رغم إمكانياتها الواعدة. وقالت في حديث مع فوربس الشرق الأوسط إن غرسات الدماغ قد تُساعد المراهقين على التعلم بسرعة والوصول الفوري إلى المعلومات، لكنها نبهت إلى أن هذا الاعتماد قد يؤثر سلبًا في نموهم العاطفي والمعرفي. وأوضحت أن تطوّر الدماغ يتطلب التمرين والجهد — مثل ارتكاب الأخطاء، ومواجهة التحديات، والانخراط في التأمل — وإن إدخال شريحة خارجية في هذه العملية قد يُضعف الروابط العصبية العميقة.
كما لفتت لطيف إلى أن التشابه المفرط في القدرات البشرية قد يُقلل من التنوع الذي يُغذي الإبداع ويعطي العلاقات عمقها. وقالت: “إذا أصبح لدى الجميع ردود الفعل والمهارات المعرفية نفسها، فإننا نُخاطر بفقدان ما يجعل الفن مؤثرًا والعلاقات ذات معنى”.
وأشارت لطيف أيضًا إلى احتمال أن يربط المراهقون تقديرهم لذواتهم بالغرسة نفسها، مما قد يجعلهم يشعرون بالضياع إذا ما تعطلت أو أُزيلت. وأوضحت أن أولئك الذين لا يملكون رقاقات قد يشعرون بالتخلف عن الآخرين، تمامًا كما يشعر بعض الأطفال اليوم عندما لا يملكون هواتف ذكية، ما قد يؤدي إلى مشاعر الغيرة والحزن والإقصاء الاجتماعي.
ومع استمرار افتقار نحو نصف سكان العالم — أي قرابة 3.7 مليار نسمة — إلى الاتصال بالإنترنت، هناك خطر من أن تصبح واجهات الدماغ والحاسوب عاملًا إضافيًا يعمق التفاوت، إذا بقيت هذه التكنولوجيا متاحة فقط لفئة متميزة تستطيع تحمّل تكلفتها.
واختتمت لطيف حديثها بالتأكيد على أن الذكاء لا يُقاس بالسرعة وحدها، بل يشمل أيضًا طريقة تفكيرنا، وإبداعنا، ومشاعرنا — وهي جوانب لا يمكن ببساطة “تحميلها” إلى الدماغ.
تقرير تم نشره في فوربس اليوم