عنون الهاجري“براثن الوحدة” لروايته الثانية الصادرة من دار أثر للنشر والتوزيع 2024، بعد الرواية الأولي”ظلمات”، برؤية جديدة لمفهوم الوحدة؛ كشعور قوي وقاسٍ يسيطر على الإنسان، وكأنها تمسك به بقوة؛ مثل براثن حيوان مفترس، حيث يشعر الفرد بالعجز، والضيق النفسي، وربما فقدان الأمل أو التواصل مع العالم الخارجي.

“لحظات صعبة وقاسية. شيءٌ ما بزغ من أعماق نفسي تلقائياً دون أن أعيد محاولة النفاذ إليها. غربةٌ مفترسة. وحشةٌ شديدة. أنا وحيد. وحيد للغاية في مدينة صاخبة لا أكاد أسمع فيها صوتي. كم شعرتُ برغبة أن يلمسني أحد! يتحسس أمكنة روحي في هذا الجسد! يجس التجاعيد التي خلفها زمني الداخلي الهرم!…”
كانت وجهة نظر ديفيد فينسنت في كتابه (العزلة) يذهب إلى التّفريق بين العزلة الاختياريّة والشّعور بالوحدة: “العزلة فيزيائيّة أساساً، وقد تكون ضروريّة وإيجابيّة أحياناً لترتيب ذواتنا أو إنجاز أعمالنا دون مقاطعات مستمرّة، ولا تقود الناس إلى الفناء بعكس الشّعور بالوحدة الذاتي الذي يمكن المعاناة منها ولو في مكان مزدحم، أنه وضع قاتلاً “. فيما تمضي مؤرخة المشاعر الإنسانيّة فايي باوند في كتابها (تأريخ الشعور بالوحدة) إلى المجادلة بأن “الوحدة ليست شعوراً فرديّاً بيولوجياً محضاً، بل نوع من استجابة لمعمار اجتماعي نتاج دور مجتمعي وحالة مكانيّة – زمانيّة في المجتمع والثقافة والاقتصاد معاً”.
لكن ممدوح يشعر بوحدة خاصة:”أقضي معظم الوقت وحدي. انعزلتُ. حيَّدني الوقتِ عن الالتقاء بالأصدقاء، المعارف، الأقرباء، لم يكن عددهم وافراً في الأصل. جنبتني الظروف والأقدار منادمة من يستحق، مسامرة من تحيطه روحي، مصاحبة ومجالسة من يألفني وآلفه. اكتظظتُ بنفسي. امتلأت بعالمي المنفرد حتى أفضتُ فيه غربةً ووحشة. أشعرُ بذلك حين تحتبس الكلمات والحروف بجوفي، تنغلق، تنكفئ على نفسها في غياهب تلك الفردانية. تودُّ أن لو دعاها أحدٌ، موقفٌ، لحظةٌ ماكثةُ بعض الشيء للحضور، للظهور، للمشاركة. تتخمني البقايا، في خاطري الكثير من بقايا الكلمات الحميمية الشائكة، الانفعالات البطيئة الهادئة التي لم تكتمل بعد، الملامات التي غمرها الصدأ بعد أن كفَّت عن المضيِّ قدماً، النظرات الخاطفة المستعتبة، العبرات المتأخرة دائماً وأبداً.”
إنها العزلة الاختيارية والفردانية التي أختارها ممدوح بقصد إبعاد ذاته عن الآخرين بشكل شبه دائم، ملئها بالتفكير، والتأمل، لكن بدون هدف سوى محبة الوحدة نفسها. فتركت أثرها في حياته، بنقص الروابط الاجتماعية أو الشعور بالتجاهل أو الاحساس بعدم الانتماء، الشعور بالملل، والتردد، والشك الدائم، والندم، وفقدان القدرة على الاستقرار.
” أن ندمي عميقٌ وممتد، يمزج معاليق السنين الفائتة بالحاضر الجديد، فلا أكاد أهنأ ببضع لحظات إلا واقتحمتني هوامش ذلك الماضي. أظنّ أنّه ينبغي لي أن أتصالح مع نفسي صلحاً كاملاً، لا بد أن أتفق معها على التفريط في السعي إلى المثالية، والإفراط في العادية، إنّ طموحاتي عالية، عالية جداً، ولا زلت أتعثر بها. مكروب. مكروب أنا جراء ذلك”.

حاولت رواية براثن الوحدة، للكاتب مبارك الهاجري، أن تصف لنا ممدوح في وحدته، وتصف الوحدة فيه، خلال تسلسل زمني من 14 فبراير، حتى تاريخ العودة، السبت 15 أكتوبر. متمثلة في حالات من العزلة والخيبة والاغتراب عن الذات وعن الآخرين. ذلك الشعور المرير بالوحدة وما يتسبب فيه من التأثيرات النفسية والاجتماعية العميقة، وتثير في نفس الوقت، التساؤلات حول معنى الحياة، وقيمة العلاقات الإنسانية، ومدى قدرة الإنسان على التكيّف مع عزلته.